بوعبيد فوق الخزان..يحاور السماء، “من جسدٌ معلقٌ بين الحقيقة والصمت”

بوعبيد فوق الخزان..يحاور السماء، “من جسدٌ معلقٌ بين الحقيقة والصمت”

عبد اللطيف سحنون

في دوار أولاد عبو الهادئ، التابع لجماعة أولاد يوسف بإقليم بني ملال، لم يكن أحد يتوقّع أن يتحول خزان مائي مرتفع إلى منبر احتجاج يائس، ولا أن يُصبح جسد شاب معلّق بين السماء والأرض، صرخة تختصر أعواماً من الألم والانتظار.

إنها حكاية بوعبيد، الملقّب بـ”فلسطين”، الذي قرر اعتلاء قمة خزان ماء شاهق يوم 24 يونيو 2025، رافعاً صوته المنكسر مطالباً بكشف الحقيقة في ملف وفاة والده الجندي المتقاعد سنة 2019… لم يطلب المستحيل، كان شعار احتجاجه”عاش الملك” ظل يرددها حتى ألقى بنفسه من أعلى الخزان بعدما شهدت تدخلات الوقاية المدنية مأساة أحد رجالها الأبطال الذي لم يكن له من هم سوى تقديم المساعدة لمواطن يائس…. فلا تنزعوا عن بوعبيد الوطنية، ولو اختار أن يطالب بأسلوب مخالف…

بداية الاعتصام: خزان يتحول إلى منبر

بوعبيد، شاب في مقتبل العمر، صعد إلى قمة الخزان المائي احتجاجًا على ما وصفه بـ”الغموض الذي يلف وفاة والده”، مطالبًا بإعادة فتح تحقيق قضائي نزيه في ظروف الوفاة.

ورغم ما يبدو عليه من تصعيد فردي، فقد حمل اعتصامه بصمة رمزية جارحة، جسدٌ معلقٌ بين الحقيقة والصمت، يحاور السماء من فوق خزان، في عزّ صيف ملتهب.
طوال 18 يومًا، ظل بوعبيد معتصمًا في عُزلة موحشة، يرفض النزول رغم محاولات متكررة من عائلته، والسلطات، وفاعلين حقوقيين لإقناعه بإنهاء الاعتصام. كانت القضية تتفاعل في صمت، إلى أن تحولت إلى مأساة.

انفجار اللحظة الدرامية

في الساعات الأولى من يوم السبت 12 يوليوز، تصاعدت الأحداث بشكل مفاجئ ودامٍ. حاول أحد عناصر الوقاية المدنية، ش. ي.، الوصول إلى المعتصم لتقديم الإسعافات، فتعرض لاعتداء بعصا معدنية، قبل أن يتم دفعه من الأعلى.

ما أدى إلى إصابته بكسور خطيرة استدعت عملية جراحية مستعجلة، بحسب مصادر طبية من المستشفى الجهوي ببني ملال.
الواقعة استنفرت عناصر الدرك الملكي التي حاولت احتواء الوضع، غير أن المعتصم دخل في حالة من المقاومة العنيفة، مستخدمًا أدوات حادة وراشقًا الحجارة، في مشهد مأساوي يحبس الأنفاس.

وفي لحظة شديدة التراجيديا، وضع حبلاً حول عنقه وقفز من أعلى الخزان، ليسقط أرضًا وقد تحطمت ساقه وكتفه. نُقل على وجه السرعة إلى المستشفى، حيث وُضع تحت العناية المركزة، بينما فتحت النيابة العامة تحقيقًا دقيقًا في ملابسات ما جرى.
المجلس الوطني لحقوق الإنسان: أسف وتحذير

في بيان صادر يوم الأحد 13 يوليوز، أعرب المجلس الوطني لحقوق الإنسان عن “أسفه الشديد لما آلت إليه الأوضاع في قضية المعتصم ب. ز.”، مشيرًا إلى أنه تابع الوضع عن كثب منذ انطلاق الاعتصام، من خلال اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان بجهة بني ملال–خنيفرة، التي قامت بزيارات ميدانية يومية وتواصلت مباشرة مع المعتصم.

وأكد المجلس أن اللجنة تفاعلت مع نداءات عائلة بوعبيد، خاصة شقيقته التي ناشدت المجلس التدخل، فتم عقد لقاءات رسمية مع والي الجهة ووكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بقصبة تادلة، لمناقشة مطالب المعتصم، وعلى رأسها إعادة فتح ملف وفاة والده.
وحسب البلاغ، فقد تعهد وكيل الملك آنذاك بالتعامل مع طلب بوعبيد وفق المساطر القانونية، وهو ما دفع المعتصم إلى إعلان نيته النزول، قبل أن يتراجع لاحقًا.

في قلب الأزمة: مسؤولية الإعلام ومخاطر النشر

في المقابل، حذر المجلس الوطني لحقوق الإنسان من خطورة تداول المقاطع المصورة للحظة سقوط بوعبيد أو مشاهد العنف، والتي تم بثها مباشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، منبّها إلى الأثر النفسي المدمر لهذه الصور على الضحايا وعائلاتهم، وعلى المتلقّي عموماً.

وقال المجلس إن “حرية النشر لا تعني إطلاق العنان لمشاهد العنف والصدمات دون مراعاة للكرامة الإنسانية”، ودعا إلى ترسيخ ثقافة إعلامية مسؤولة تحترم الأخلاقيات المهنية وتحدّ من تطبيع الجمهور مع الألم الجماعي.
مناشدات عائلية وملف لم يُغلق

طوال أيام الاعتصام، لم تكف شقيقة بوعبيد عن مناشدة المسؤولين للتدخل العاجل، محذّرة من أن شقيقها “في وضعية نفسية صعبة وقد يُقدم على ما لا يُحمد عقباه”. كما استغربت تأخر التفاعل الجدي مع مطلب إعادة التحقيق في وفاة والدها، معتبرة أن “الأسرة لم تتلقَ جوابًا شافيًا منذ سنوات”.

وتفيد معطيات من محيط المعتصم أن وفاته والده كانت محل تساؤلات، خاصة أن الأخير كان جنديًا متقاعدًا وتوفي في ظروف وُصفت آنذاك بـ”الغامضة”، دون أن تنجح الأسرة في استجلاء الحقيقة رغم المراسلات والشكايات.
يطرح حادث بوعبيد أسئلة عميقة حول فعالية آليات الوساطة الحقوقية، وحدود تدخل المؤسسات في النزاعات الاجتماعية الفردية. فبينما بذلت اللجنة الجهوية مجهودات ميدانية – حسب ما جاء في بلاغ المجلس – فإن النهاية المأساوية تسائل الجميع: ألم يكن ممكنًا احتواء الأزمة بشكل أسرع؟ وهل كان بالإمكان استباق لحظة الانفجار؟

بعض الحقوقيين يرون أن الملف تأخر كثيرًا في تجاوبه المؤسساتي، خاصة أن المعتصم لم يكن يطالب إلا بإعادة فتح تحقيق، وهو أمر يدخل ضمن الإمكانيات القانونية المتاحة، مشيرين إلى أن الإحساس بالتجاهل قد يكون سببًا رئيسيًا في تشدد المعتصم وإصراره.

بوعبيد لم يكن مجرد معتصم على خزان ماء… كان مواطنًا يائسًا، يصرخ من أعلى نقطة في قريته لأن الأرض لم تعد تسمعه.

جسده كان هو الرسالة، وموضعه المرتفع كان المايكروفون الأخير في مسرح الحياة.
إنه مشهد يكشف خللاً بنيويًا في تدبير الأزمات الاجتماعية الفردية، ويعري هشاشة منظومات الوساطة، ويضعنا أمام ضرورة إعادة النظر في سرعة الاستجابة، وفي الحضور الميداني الحقيقي قبل أن يتحول الغضب إلى مأساة.

التحقيق القضائي الذي فُتح بإشراف النيابة العامة يُنتظر أن يكشف حقيقة ما جرى بالتفصيل، سواء في ما يخص وفاة والد بوعبيد، أو أحداث التدخل الأمني، أو مسؤوليات الاعتداءات التي وقعت. كما يواصل الطاقم الطبي جهوده لإنقاذ المعتصم والمصابين الآخرين.

ويبقى الأمل معلقًا على أن تكون هذه الفاجعة مناسبة لإعادة فتح الملفات المنسية، وأن لا تذهب صرخة بوعبيد سُدى، خصوصًا وأنها كادت تُنهي حياة شاب، وتسببت في إصابة رجال تدخلوا بدافع إنساني.
وإلى حين ذلك، يظل الخزان المائي في دوار أولاد عبو، شاهدًا صامتًا على وجعٍ معلّق في الهواء… صرخة بحجم دولة، ونداء بعدالة تأخرت كثيرًا… فقط كان جواب” كيف مات الأب السجين ” كافيا لتفادي كل هذه الفوضى والمآسي…

Share this content:

إرسال التعليق