احتجاج بمخيمات تندوف: صرخة من قلب التيه وافتضاح جديد لعزلة البوليساريو ونظام الجنرالات المترهل
كريمة دهناني
مشهد يعيد إلى الأذهان طبيعة الأنظمة المغلقة التي تتغذى على وهم السلطة وتبني شرعيتها على آلام المحرومين، هو الذي عاشته مخيمات تندوف البئيسة، الخاضعة لسلطة جبهة البوليساريو المدعومة من النظام العسكري الجزائري.
اندلعت احتجاجات نادرة من نوعها، حيث اعتصم عدد من عناصر ما يُسمى بـ”الجيش الشعبي الصحراوي” أمام ما يدعونه بـ”وزارة الدفاع”. اعتصام لم يكن مدفوعاً باعتبارات سياسية كبرى، بل كان نداءً إنسانياً خالصاً ضد الإهمال والتهميش والخذلان، نداءً يكشف، من الداخل، زيف الشعارات وخراب البنية المزعومة لـ”الجمهورية الصحراوية” التي لا توجد إلا على الورق وداخل أجندات النظام العسكري الجزائري.
جبهة وهمية في انهيار داخليأن يحتج أفراد من داخل الجهاز العسكري التابع لجبهة الوهم البوليساريو على الأوضاع الصحية والاجتماعية المزرية، فذلك أكبر دليل على هشاشة البنية التنظيمية لهذه الجبهة التي لا تملك من “الدولة” إلا الاسم والشعار.
فالعناصر المعتصمة – ومنهم محمود امبارك إبراهيم العربي، محمد مولود سعيد علال، ومحمد لمين سلمى محمد فاضل – لم يطلبوا امتيازات، بل طالبوا بأبسط الحقوق الإنسانية: الرعاية الطبية.
أي أنهم يطالبون اليوم بما كان يجب أن يُكفل لهم بالأمس… وربما منذ سنوات.هذه الاحتجاجات التي وصفها المعتصمون بأنها ضد “التهميش المتعمد” و”الإهمال الصحي الممنهج”، ليست إلا انعكاساً واضحاً لانهيار النموذج الكاذب الذي تروج له البوليساريو بدعم من كابرانات الجزائر.
فمتى كانت التنظيمات المارقة قادرة على بناء نموذج رعاية أو إدارة سليمة؟ منطقياً، من يرفض الحلول الواقعية ويختار الاحتماء بالشعارات، لا يمكنه إلا أن ينتج الفشل.من الشعارات إلى الانكساراتلطالما صدّرت البوليساريو نفسها للعالم كـ”حركة تحررية”، وتغنت بشعارات “الصمود” و”الكرامة”، لكنها اليوم عاجزة حتى عن توفير علاج لجرحى تنظيمها المسلح.
بل إن الفارق المهول بين ما يُروَّج في الخطب الإعلامية وما يعيشه من يُفترض أنهم “أبطال القضية” يظهر حجم النفاق الذي يحكم هذا الكيان.والمثير للانتباه أن هذه الصرخة جاءت من أبناء الجهاز العسكري، أي من صفوف أولئك الذين سلّمتهم الجبهة لمصير التهميش بعد أن استهلكت طاقتهم في صحراء التيه السياسي.
فإن كان هؤلاء لا يجدون من يهتم لألمهم، فما بالك بالمدنيين، والنساء، والمرضى من سكان المخيمات الذين لا صوت لهم ولا ظلّ؟البعد الإنساني قبل السياسي الاكتفاء بتحليل هذا الحدث في بعده السياسي كيف كاف، بل يجب إبرازه كدليل على معاناة إنسانية دامغة.
فما يقع في تندوف اليوم هو احتجاز ممنهج، وعزل قسري لمواطنين في ظروف غير إنسانية، وفي إطار قانوني هش ومضلّل، يخضع لمنطق التحكّم السياسي من طرف جنرالات الجزائر.
المغرب، الذي يقترح منذ سنوات حلاً سياسياً واقعياً وعادلاً عبر مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة الوطنية، إنما يضع الإنسان قبل الجغرافيا، ويستند إلى المقاربة الحقوقية والاجتماعية وليس إلى منطق المناكفات الإيديولوجية. وهو ما تعيه جيداً عدد من الدول التي باتت تدعم هذا الحل، معتبرة إياه السبيل الوحيد لإنهاء النزاع المفتعل وضمان مستقبل كريم لسكان المخيمات.
النظام الجزائري… راعٍ للفشل والخذلانالاحتجاج الحاصل اليوم في مخيمات تندوف لا يمكن فصله عن السياق الإقليمي الأشمل، حيث يزداد النظام العسكري الجزائري عزلة أمام الفتوحات الدبلوماسية المغربية، وتتعاظم خيبته كلما نُسج اعتراف جديد بمغربية الصحراء.
لقد سقطت ورقة التوت عن مشروعه في دعم البوليساريو، فلم يعد بإمكانه إقناع أحد بأن دعمه للجبهة نابع من “مبدأ التحرر”، بل صار واضحاً أن المسألة تتعلق بنزعة عدوانية تجاه المغرب.ولعل مأساة هؤلاء المعتصمين داخل ما يُسمى بـ”وزارة الدفاع الصحراوية” تكشف حقيقة المشروع الذي يسوّقه النظام الجزائري:
مشروع تدميري يُبنى على آلام المحتجزين، ويتغذى على المال العام الجزائري، دون أي مردودية اجتماعية أو تنموية.
عزلة بوليساريو… وعزلة الكابراناتتعيش البوليساريو اليوم واحدة من أكثر مراحلها السياسية حرجاً. فبعد أن فقدت دعم عدد من الدول التي كانت تؤيدها، وانهار خطابها أمام التطورات الدبلوماسية المتسارعة، ها هي تفقد شرعيتها داخلياً، وتواجه احتجاجات من داخل صفوفها.
أما نظام الكابرانات، فبات يُقابل بمواقف متحفظة من عدة دول بسبب عدائيته المفرطة للمغرب، وسجله السيء في مجال حقوق الإنسان، خاصة في ما يتعلق بسكان تندوف الذين لا يتمتعون بأي وضع قانوني معترف به، ولا يخضعون لأي رقابة دولية حقيقية.
لقد أصبح واضحاً أن هذا النظام لا يملك أي تصور للخروج من الأزمة سوى المزيد من العناد، رغم أن المغرب يتقدم بثقة على المستويين الإقليمي والدولي، ويكسب المعركة بالعمل التنموي والطرح الواقعي، في حين يخسر جنرالات الجزائر الرهان بسبب تبعيتهم لمنطق الحرب الباردة والخطاب المتآكل.
المغرب… في موقع الصدارةإن المغرب، برؤية ملكية استراتيجية تعتمد على التنمية البشرية، وتوسيع البنية التحتية، ودمج الأقاليم الجنوبية في النموذج التنموي الوطني، استطاع أن يربح معركة الشرعية والمصداقية. ففي الوقت الذي يعاني فيه سكان تندوف من غياب العلاج، تُبنى المستشفيات في العيون والداخلة، وتُفتح القنصليات، وتُنظم اللقاءات الاستثمارية الكبرى.
وفي الوقت الذي يواجه فيه نظام الكابرانات عزلة خانقة، يتحول المغرب إلى شريك استراتيجي لعدد من القوى الدولية، ويُحتفى به في المحافل الكبرى كفاعل محوري في الاستقرار الإقليمي.لا بديل عن الحكم الذاتي: إجماع دوليالاحتجاج الأخير في تندوف هو برهان جديد على أن الوضع لم يعد يُطاق، وأن الحلول الترقيعية لم تعد تجدي.
إن استمرار هذا الوضع هو تهديد مباشر للسلم الاجتماعي في المنطقة، وخطر على الأمن الإقليمي. ومن هنا فإن المبادرة المغربية للحكم الذاتي، التي وصفها مجلس الأمن بأنها “جادة وذات مصداقية”، تمثل المسار الوحيد لتجاوز هذه الأزمة، وطيّ صفحة من المعاناة دامت عقوداً. تندوف تنزف والحق يعلومن تندوف تأتي اليوم صرخة لا يمكن تكميمها، لا بالدعاية ولا بالخطابات الجوفاء.
صرخة تقول إن الزمن تغيّر، وإن من كانوا يلوحون بالسلاح باتوا يطالبون بالدواء، ومن صمتوا طويلاً خشية القمع باتوا اليوم يرفعون صوتهم احتجاجاً على الإهمال.
هذه الصرخة يجب أن يسمعها العالم، لأنها تكشف زيف مشروع انفصالي يتهاوى من الداخل، وتؤكد أن المغرب، بثباته ونضجه، يربح المعركة ليس فقط في ردهات الدبلوماسية، بل في قلوب العاقلين.
تندوف ليست فقط خريطة للتيه السياسي، بل مرآة تعكس الوجه الحقيقي لنظام يرفض الاعتراف بالفشل، ويتمسك بسراب… بينما المغرب يمضي إلى الأمام، ببوصلة واضحة ورؤية إنسانية تستحق الدعم والإشادة.
Share this content:
إرسال التعليق