مأساة غزة: صمت النخب الحزبية المغربية مقابل شارع يصرخ وقادة يعانون من متلازمة” البصري”

مأساة غزة: صمت النخب الحزبية المغربية مقابل شارع يصرخ وقادة يعانون من متلازمة” البصري”

المغرب عبد اللطيف سحنون

العدوان على غزة الدموي، والتجويع الصهيوني المنهجي البربري، والإبادة الأكثر بشاعة في زمن ما بعد الحرب الباردة، والتي هزت مشاهدها عواصم العالم، لم تحرك شعرة في المشهد السياسي المغربي الحزبي عدا بعضها كما، خلافا للوجدان الشعبي المغربي والشارع، الذي صرخ وندد دون وساطة حزبية واضحة.

فبينما تموج الساحات والشوارع بمسيرات حاشدة، رافعة أعلام فلسطين وهاتفة بشعارات الرفض للظلم والتضامن الأبدي مع القضية، يخيّم صمت ثقيل، بل ومريب، على غالبية النخب الحزبية المغربية، وإعلامها… حتى من يدعي انتماءه لليسار التقليدي، والليبرالية صانعة منظومة الحقوق الحديثة.

غزة، التي تشتعل نارًا وتزهق أرواحًا، تكاد تكون غائبة عن الخطاب الإعلامي الرسمي لهذه الأحزاب، وحتى المستقل، حبيسة في حدود بيانات مقتضبة أو تدوينات عابرة على منصات التواصل الاجتماعي، كمواقف موسمية تطفو تحت ضغط الرأي العام أو بدافع أخلاقي فردي عابر.هذا ليس انطباعًا عابرًا، بل هو انفصام صارخ يكشف عن هوة تتسع بين حس الشارع المتجذر مع فلسطين، وبين حسابات حزبية باردة تفتقر إلى الجرأة والعمق.وهم القيود الذاتية يكشف عن عطب بنيوي. فبعض النخب الحزبية والسياسية، بل وحتى الثقافية، تتلبس اعتقادًا بأن التطبيع الرسمي الذي دخلته الدولة المغربية في سياقات إقليمية ودولية بالغة التعقيد، يفرض عليها صمتًا أو حيادًا أو تماهيًا مع الرواية الصهيونية.

يهيمن على قسم منها خوف مركب من أن يفسر أي موقف مناصر واضح وصريح لغزة ولحقوق الشعب الفلسطيني على أنه معارضة ضمنية لخيارات الدولة، أو خروج على الخط العام.هذا الوهم المضاعف، سياسيًا وإدراكيًا، يتهاوى أمام حقائق ملموسة. فالدولة المغربية، بقيادة الملك محمد السادس بصفته رئيس لجنة القدس، لم تتخل عن موقفها الثابت.

أصدر الملك بيانات متعددة قوية اللهجة، تنديدًا صريحًا بالعدوان الإسرائيلي الوحشي، وتأكيدًا على الدعم الإنساني والسياسي المستمر للشعب الفلسطيني، واستمرار الدفاع عن وضع القدس الشرقية كعاصمة لفلسطين، في امتداد طبيعي للموقف التاريخي الثابت للمملكة. والأكثر دلالة أن هذا الموقف الرسمي لم يترجم إلى قيود على حرية التعبير الشعبي.الشارع المغربي، منذ اليوم الأول للعدوان، شهد مسيرات حاشدة وتظاهرات واسعة في الرباط والدار البيضاء وفاس وطنجة ومدن أخرى. رفعت الأعلام الفلسطينية، وهتفت الشعارات المنددة بالاحتلال والصهيونية والمؤيدة لمقاومة الشعب الفلسطيني.لم تواجه هذه الفعاليات التضامنية قمعًا ممنهجًا، ولم تحاصر، ولم تمنع. هذه الحرية في التعبير عن الغضب والتضامن، رغم وجود اتفاقيات التطبيع، تشكل مفارقة بالغة الأهمية: فهي تثبت أن التطبيع الرسمي، في تقدير الدولة المغربية، لن يكون أداة لخنق المجتمع أو إسكات صوته الأخلاقي تجاه فلسطين. لقد رسمت الدولة خياراتها الاستراتيجية المعقدة، ولكنها لم تفرض على الأحزاب أو المواطنين صمتًا قسريًا.

وهنا يقع العبء الأكبر على النخب الحزبية نفسها، التي بدت وكأنها فرضت على ذاتها قيودًا لم تطلبها الدولة، وتوهمت أن التطبيع يلزمها بتجميد ضميرها.المشهد الإقليمي يكشف تناقضًا صارخًا عند النظر إلى الجوار. فالنظام الجزائري، الذي يرفع خطابًا رسميًا صاخبًا في دعم فلسطين ورفض التطبيع، يقمع في الواقع أي محاولة حقيقية للتعبير الشعبي الحر عن هذا الدعم.

يمنع نظام العسكر في الجزائر المسيرات التضامنية العفوية، ويواجه أي حراك مدني بالسجن والترهيب، في مشهد يفضح الفجوة بين الخطاب البراق والممارسة القمعية.المشهد المغربي، على النقيض تمامًا، يظهر أن التطبيع السياسي على مستوى الدولة لم يقتل روح التضامن الجماهيري، بل سمح لها بالظهور، رغم كل ما يحيط بالموقف من تعقيدات.

هذه المقارنة تكشف زيف تبريرات الصمت الحزبي المغربي القائمة على وهم التماهي مع حدود وهمية من نسيج الخيال السياسي. الوقائع تقول: المساحة للحديث والتضامن موجودة، ولكن الإرادة الحزبية غائبة… لم تقرأ جيدا بيانات الملك ولا إشاراته السياسية القوية.

ففي قلب هذا السياق، تبرز المبادرات الملكية كعلامة فارقة في الدعم الملموس لفلسطين.

لقد تجاوزت خطاب التنديد إلى الفعل الإنساني الثابت، حيث أمر الملك محمد السادس بإرسال مساعدات طبية عاجلة إلى غزة شملت 40 طنًا من المعدات الطبية المتخصصة في علاج الحروق والكسور وأدوية السكري والمضادات الحيوية، تم تمويل جزء كبير منها من المال الخاص لجلالته. والأكثر رمزية أن هذه المساعدات الملكية سلكت طريقًا بريًا مباشرًا استثنائيًا، محققة اختراقًا لوجستيًا غير مسبوق في ظل الظروف الأمنية المعقدة، مما يؤكد المصداقية الدولية العالية التي تحظى بها المملكة في هذا الملف.

هذه المبادرات ليست طارئة، بل هي جزء من تقليد ملكي متجذر. فالملك الراحل الحسن الثاني أسس لسياسة ثابتة تجاه القدس وفلسطين، والملك محمد السادس واصل هذا النهج عبر رئاسته الفاعلة للجنة القدس ووكالة بيت مال القدس، اللتين تعملان على دعم الصمود الفلسطيني عبر أفعال ملموسة وليس أقوالًا فحسب. كما أشاد رئيس الحكومة المغربي السابق، سعد الدين العثماني، بهذه الجهود ووصفها بأنها إنسانية وجريئة وسامية، تليق بمقام العلاقات التاريخية بين الشعبين المغربي والفلسطيني.

فشل بعض النخب الحزبية في توظيف المساحة المتاحة يعكس أزمات عميقة. الانفصال عن نبض الشارع جعل كثيرًا من الأحزاب تتحول إلى آلات انتخابية جوفاء، تقيس القضايا بميزان الربح الانتخابي الضيق.

فلسطين، في هذه المعادلة، تعتبر ملفًا خارجيًا لا يصوت له ناخب، رغم أنها في الوجدان الشعبي عمود من أعمدة الشرعية الأخلاقية.ويستمر الوهم لدى بعض القادة بأن أي موقف حازم سيفسر كتمرد على الدولة، رغم أن الدولة نفسها، عبر حرية التظاهر وبيانات الملك، لم تطلب هذا الصمت.وفقد جزء من النخبة صلته بالجذور، فبات يتعامل مع القضية الفلسطينية بمنطق براجماتي بارد، متناسيًا أن الشرعية الأخلاقية والسياسية للحزب في المغرب لا تكتمل إلا بتمثل قضايا الأمة الكبرى، وفي مقدمتها فلسطين.

Share this content:

إرسال التعليق

تسليط الضوء